ترجمان القرآن: قصة عبد الله بن عباس ومكانته العظيمة
في تاريخ الأمة الإسلامية، تبرز شخصيات استثنائية تركت بصمة كبيرة في فهم دين الله، ومن أبرز هؤلاء الذين سطروا أسماءهم بحروف من نور هو عبد الله بن عباس رضي الله عنه، الذي لُقب بـ “ترجمان القرآن”. فهو لم يكن مجرد فقيه أو مفسر، بل كان رائدًا في علم تفسير القرآن الكريم، ونال مكانة عظيمة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. عُرف بسعة علمه وفهمه العميق لمعاني القرآن الكريم، وهو الذي قدَّم للأمة الإسلامية العديد من الآراء والمفاهيم التي ساعدت على توضيح معاني القرآن ودلالة آياته.
عبد الله بن عباس: النشأة والبداية
ولد عبد الله بن عباس رضي الله عنه في مكة المكرمة سنة 3 قبل الهجرة، وهو ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم. نشأ في بيئة هاشمية نبيلة، وكان لديه شغف كبير بالعلم والمعرفة منذ صغره. في طفولته، كان يلازم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتعلم منه مباشرة، وهو ما جعل منه أحد أبرز الصحابة الذين خدموا العلم والحديث والتفسير.
كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب عبد الله بن عباس حبًا كبيرًا، فقد قال عنه: «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل»، كما دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يُعطيه الله العلم والفهم العميق لدين الله. وقد استجاب الله لهذا الدعاء الكريم، فكان بن عباس من أفقه الناس وأعلمهم بكتاب الله وسنة نبيه.
ما الذي جعل عبد الله بن عباس “ترجمان القرآن”؟
إن اللقب الذي حمله ابن عباس رضي الله عنه، “ترجمان القرآن”، لم يكن من فراغ، بل كان نتيجة لجهوده العظيمة في فهم القرآن الكريم وتأويله. ففي فترة حياته بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، بدأ عبد الله بن عباس يتنقل بين مختلف البلدان لنقل علمه، وكان يتصدر المجالس العلمية في الحجاز والعراق وغيرها من الأمصار، حيث كان يفسر القرآن الكريم ويسعى لفهم معانيه ودلالاته.
وقد ورد عن الصحابة والتابعين العديد من الأقوال التي تثني على علمه في القرآن، حيث كان يعدُّ من أعظم المفسرين على مر العصور. كان يملك قدرة فائقة على فهم دلالة الكلمات القرآنية وربطها بالسياق التاريخي والاجتماعي للآيات.
العلم الواسع لابن عباس في القرآن الكريم
كان عبد الله بن عباس رضي الله عنه ذا علم موسوعي في تفسير القرآن الكريم، فحتى عندما اختلف الناس حول تفسير بعض الآيات، كان هو المرجع الأوحد الذي يلجأ إليه الناس لتوضيح معنى الآية. وقد تناول تفسيره القرآن في عدة جوانب، منها:
-
تفسير القرآن بالقرآن: كان ابن عباس في تفسيره للقرآن يستخدم القرآن نفسه، فيربط الآيات ببعضها لتوضيح المعنى الإجمالي للآية أو السورة. هذا المنهج في التفسير كان يعكس دقة فهمه وشمولية علمه.
-
تفسير القرآن بالسنة النبوية: استند ابن عباس في تفسيره للقرآن أيضًا إلى الحديث الشريف، فكان إذا استشكلت عليه آية، يذهب إلى السنة النبوية ليجد تفسيرًا لها.
-
تفسير القرآن بالقياس واللغة: استخدم ابن عباس أيضًا مهاراته اللغوية والتاريخية لفهم أبعاد الآيات، فكان يعتمد على القواعد اللغوية للغة العربية وعلى السياق التاريخي، خاصة في تفسير الآيات التي كانت تتعلق بالواقع الاجتماعي والسياسي في ذلك الوقت.
-
التفسير الإشاري والرمزي: كان ابن عباس من أولئك الذين أخذوا بالرمزية في تفسير بعض الآيات التي تبدو ظاهريًا غامضة، وكان يعتمد في تفسير هذه الآيات على فهم عميق لروح القرآن.
منهج عبد الله بن عباس في تفسير القرآن الكريم
يعد منهج ابن عباس في تفسير القرآن من أقدم المناهج التي اعتمدها علماء التفسير على مر العصور. وكان له طريقتان رئيسيتان في تفسير القرآن، هما:
-
التفسير بالمأثور: وهو أن يذكر ابن عباس التفسير الذي نقله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عن الصحابة الذين كانوا معه في عصر النبوة. كان يحرص على نقل هذه الأقوال بعناية شديدة.
-
التفسير بالرأي: وكان ابن عباس يفسر بعض الآيات بناءً على فهمه الشخصي، شريطة أن يكون هذا التفسير مطابقًا للقيم والمفاهيم الإسلامية، وألا يكون مخالفًا لما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أو الصحابة.
وقد ساعد هذا الجمع بين المأثور والرأي في أن يخلق منهجًا مميزًا للتفسير، يمكن الاستفادة منه في مختلف العصور.
تلامذة عبد الله بن عباس وأثره العلمي
كان لعبد الله بن عباس أثر كبير في جيل التابعين، فقد تتلمذ على يديه العديد من العلماء البارزين مثل سعيد بن جبير، ومجاهد بن جبر، وعكرمة بن أبي جهل، وغيرهم. هؤلاء العلماء نقلوا علمه وأثره إلى الأجيال القادمة، وبهذا ساعد ابن عباس في نشر العلم القرآني وتفسيره بين المسلمين.
كانت مجالس ابن عباس العلمية محطَّ أنظار العلماء والطلاب على حد سواء، إذ كان يستقطب الناس من مختلف الأمصار للاستفادة من علمه وتفسيره. وكان يجيب على استفساراتهم ويحلَّ مشاكلهم المتعلقة بتفسير القرآن.
دروس من حياة عبد الله بن عباس
كان عبد الله بن عباس رضي الله عنه مدرسة في التواضع والاعتدال، فقد حرص على تقديم علمه وتفسيره للناس بغير تكلف أو تعالٍ. كما كان يَحْتَفِي بشباب الصحابة والتابعين، ويشجعهم على طلب العلم، مُظهِرًا في ذلك تواضعًا جمًا رغم علمه الواسع ومكانته العالية. فقد ذكر في العديد من الروايات أنه كان يقال له: “أنت أفقه الناس”، فيرد قائلاً: “أنا أعرف مني وغيري” دلالةً على أن الفقه لا يُقاس بالشهرة بل بالعلم والخشية من الله.
كان عبد الله بن عباس أيضًا رمزًا للوعي الاجتماعي والسياسي. فقد كان يحلل الآيات وفقًا لما يتناسب مع الزمان والمكان، ما جعل تفسيره وثيق الصلة بمشاكل الأمة ومشاغلها.
الخاتمة
عُرف عبد الله بن عباس رضي الله عنه كأحد كبار المفسرين في تاريخ الأمة الإسلامية، ويكفيه فخرًا أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا له بفقه في الدين وعلم التأويل. لقد ترك لنا هذا الصحابي الجليل إرثًا علميًا كبيرًا في تفسير القرآن الكريم، وأثرًا عميقًا في علوم التفسير التي استمر علماء الأمة في الاعتماد عليها لقرون طويلة بعده.
إن الفهم العميق لعبد الله بن عباس لمعاني القرآن الكريم، وإيمانه الصادق بالرسالة، والاهتمام بتفسير القرآن وفقًا لروح زمانه، جعله واحدًا من أبرز العلماء الذين لا يمكن للأجيال القادمة أن تنسى دورهم في خدمة كتاب الله عز وجل.
